top of page

مراجعة رواية المسخ/ الانمساخ لفرانز كافكا

هي رواية خياليّة للروائيّ التشيكيّ فرانز كافكا نُشرت لأول مرّة سنة 1915 باللغة الألمانيّة. تُعتبر واحدة من أشهر وأهم أعمال كافكا التي تناولت بأسلوبٍ عبثيّ قصّة الشاب 'غريغور سامسا' الذي يستيقظ ذات صباح ليجدَ نفسه قد تحوّل إلى حشرةٍ ضخمة مقززة!

رسم لبين جونز يعرض كافكا مع مخلوقه المتحول من رواية الانمساخ

A photo by Ben Jones


يثور كافكا على المعتاد والمألوف في هذه الرواية، يثور على التسلّط والاستغلال والتطفّل، على الواقع المتردّي المهترئ، كما يثور على نفس الإنسان ذاتها!... تضعك الرواية وسط صراع الذات مع نفسها ضمن المجتمعٍات الحديثة حيث كل شيء يهتف نصرة نفسه، العائلة، والعمل، والمجتمع.


تتمحور أحداث الرواية حول ظاهرة الاغتراب التي قد تصيب المرء نتيجة معايشته لأحوال وظروف مناقضة تماماً لرغباته وطموحاته، أحداثٌ كفيلة بتحويله من ذات بشرية تعتريها فوضى مشاعر -مشاعر جديرة بالتقدير- إلى آلةٍ مبرمجة وفق دائرة غير منتهية من الأحدث المكررة يومياً، وربما يتحوّل ببساطة إلى حشرة ينفر منها الجميع لا يكون لها أيّ وزنٍ أو أهمية. هنا يجب على المرء أن يقفَ أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا الخضوع لهذا الواقع غير المنصف الذي يؤدي لخسارة النفس وغربتها عن نفسها وعمّن حولها، وإمّا رفض الواقع والقوانين غير المقبولة والتمرّد عليها، ولكليهما ثمن!


كان 'غريغور سامسا' الذي اختاره 'كافكا' بطلاً لروايته، يعايش تحكّم وتهكّم المؤسسات الاجتماعية المختلفة، إذ كان يعمل في شركة مبيعات ليُعيل أسرته المؤلفة من أب وأم وأخت ويسدّ ديون أبيه التي أحنت ظهره. ومن تتبع أحداث الرواية يظهر لنا جليّاً نمط العلاقة المزعزعة بينه وبين أسرته التي تعيش متطفلة على راتبه الضئيل، فهو "الابن الطيب" طالما يقوم بواجبه على أكمل وجه، وأيّ تبدّل في هذا يصحبه غضب ونبذ وإهمال.


وأمّا في مكان عمله الذي وجد نفسه مرغماً على التعايش معه، تظهر جليّة حالة التسلّط والتحكّم من قبل رئيس الموظفين من جهة، ليقابلها من جهة أخرى حالة الخنوع والرضوخ من قبل 'سامسا'. في الواقع هو يحمل رغبة لا واعية بأن يُطرد من عمله لكنّه يخاف على أسرته! ومن هنا تنشأ بوضوح حالة انفصام الشخصية، إذ أنّ نموذجي الأب القاسي ورئيس العمل يمثلان المبدأ السلطوي المتحكّم، وهذا ما يثير في نفسه تخبطاً واضحاً بين الخضوع والرغبة بالتمرد معاً.


وعليه، حاول 'سامسا' أن يتّبعَ القوانين، أن يكونَ ولداً مهذباً، وأن يظلّ عقلانياً كما وصفه مديره في العمل... ومن بين كل هذه المحاولات الصادقة يبدأ بفقدان نفسه تماماً ليعيشَ أزمة وجودية مثيرة للعجب. فهاهو يستيقظ من كوابيسه في أحد الأيام ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة مقززة، ظنّ للوهلة الأولى أنّه ما زال يحلم، وداخل فوضى الأحداث ولا معقوليّتها كان بحاجة لدليلٍ قاطع يؤكّد له صحّة الحدث، وهذا ما حصل عليه عندما وجد أسرته مصعوقة ومرعوبة من هول الحادثة. عندها أدرك واقعية الحدث فهتف قائلاً: "لا، إنّه ليس حلماً!".

صورة من مجموعة Izmir Game Collective ، رسم كاريكاتوري يظهر مخلوق كافكا الغريب بعد أن تحول إلى حشرة وخوف عائلته منه.

A photo by Izmir Game Collective


يصوّر كافكا لاحقاً شعور الوحدة الذي ينتاب 'سامسا' وهو على هذه الهيئة، الشعور الذي قد يبدو لنا أنّه مجرّد استئناف لشعور عتيق لطالما عاشه وغاص فيه وهو على هيئته البشرية، إذ كان قد اعتاد على إغلاق باب غرفته وراءه مانعاً نفسه وغيره من التواصل أو التحدث ليعيش في عالمه الخاص الذي بذل لأجله الكثير من الأحلام والأماني والتخيلات، لكنّه الآن يُبقي باب غرفته مفتوحاً أملاً بقدوم أحدٍ يؤنسه ويواسيه ويقف بجانبه.. لكنّ أحداً لم يدخل!


يدرك 'سامسا' أنّ الانمساخ يشمل صوته أيضاً، فمهما حاول توضيح كلامه كان مايزال صوته يبدو كصوت حشرة مرعبة وهذا يعني استحالة التواصل مع أحد بطريقة الكلام أيضاً، وإذ يقع نظر الوالد على ابنه الممسوخ يحاول التواصل بطريقة حيوانية إذ يقوم بإطلاق أصوات فحيح كي يطرد 'سامسا' إلى حجرته... ماذا! هل تحولت إذاً الدائرة الإنسانية إلى حيوانية؟ هل بات من الضروري التأكيد على جدّيّة الحدث؟.


من خلال تتبع الأحاديث التي كان يجريها 'سامسا' مع ذاته والتي دلّت على ارتباط عميق بوعيه، جعلت الباحثين يسقطون ذلك أيضاً على شخص 'كافكا'.. إذ وجدوا تطابقاً أصيلاً بين شخصيّة الروائي وشخصيّة بطله، ما يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي: أين نجد 'كافكا' في روايته؟

يجزم العديد من الباحثين أنّ 'كافكا' لم يكن يتحدّث في روايته إلّا عن نفسه هو، عن جوانب كثيرة في حياته كانت تؤرقه. إذ عُرف بكرهه لوظيفته المهنية على اعتبار أنها شكّلت عائقاً أمام رغبته في الكتابة، كما أنّه لم يكن يلقى تفهّماً من قبل أسرته وخاصّة أبيه، وهذا يظهر في العديد من كتاباته ليس فقط هذه الرواية. حتّى الاسمين يعطيان السجع ذاته أثناء اللفظ، إذ انّ عدد الأحرف هو نفسه والحرفان الصّوتيان يتموضعان في الاسمين في نفس المكان.


وبعيداً عن المطابقات والاسقاطات، نلاحظ اعتماد 'كافكا' بشكلٍ مثير على الرّمزية للدلالة على توصيفات معيّنة فمثلاً:

تمثّل الحشرة التي أصبح عليها 'سامسا' الجوانب اللاإنسانية والمهينة في حياته وعمله في المجتمع الحديث. تمثل مظهراً من مظاهر البؤس الخالص الذي يشعر به بسبب عمله لأجل الآخرين دون وجود دافع أو قدرة على تطوير علاقات وثيقة مع الزملاء أو العملاء، أو حتى تطوير نفسه وشق طريقه الخاص.


أمّا عن صورة المرأة الملفّحة بالفرو، يجادل العديد من المفكرين والكتّاب أنها ترمز إلى 'غريغور سامسا' الكائن البشري الذي يمكنه الاستمتاع بصورة استفزازية لامرأة نخبوية، وعليه سارع لإنقاذها من أمه وأخته اللتين بدأتا تزيلان أثاثه وممتلكاته، من الغرفة وكأنه كان يحرس أمله الأخير المتبقي في البقاء بشرياً.


في إحدى المشاهد، يملأ والد غريغور جيوبه بالتفاح ويبدأ برميها عليه نتيجة ثورة غضب همجية اعترته بعد ظهور ابنه بهيئته الغريبة وتسببه في إغماء والدته، لتستقر إحداها في ظهره وتبدأ بالتعفن مسببة التهاباً كبيراً. أسقط بعض الباحثون رمزية استخدام التفاح على تلك التفاحة المحرمة لشجرة معرفة الخير والشر في الكتاب المقدس، والتي من خلال تناولها اكتسب آدم وحواء المعرفة، ولكن بالمقابل ارتكبا أيضًا خطيئة وعليه طُردا من الجنة. هي نفسها التفاحة التي هزمت 'غريغور' ذلك الرجل المسكين الذي لم يكن يطمح سوى بالعيش كفنان لكن خطيئته الوحيدة أنّه وُجِدَ في مجتمع لا يحدد قيمة الفرد إلا حسب الفائدة الماديّة التي يجنيها، وعندما أصبح قاصراً على تقديم أيّ عونٍ تغير كل شيء.

 حشرة معلقة في المنتصف بواسطة إبرة في إشارة إلى مخلوق كافكا من رواية الانمساخ Barely Sparrow  تظهر صورة التقطتها

A photo by Barely Sparrow


قد قال 'كافكا' سابقاً: "على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا"، وهذا ما فعله كافكا من خلال هذه الرواية التي حاولت أن تسلط الضوء على جمود المجتمعات الحديثة وما فرضته على البشر من اغتراب وعزلة.


معلومات الكتاب الكتاب: الانمساخ المؤلف: فرانز كافكا تاريخ الإصدار: 1915 عدد الصفحات: 95

النوع: قصة قصيرة، رمزية، عبثية، خيالية.

٣٩ مشاهدة٠ تعليق

Kommentare


bottom of page